◄وُلد الإسلام على خطّ التوحيد، واندرج في سياقه، وكان يؤثر في الواقع المحلي من جبهتين: الدِّين والثقافة، نتحسس ذلك من خلال المقاومة التي أبداها الناس تجاه القرآن، ويمكن أن نلحظ من جانبهم مقاومة دينية في سبيل الشرك (تعدد الآلهة) واحترام الأجداد، وهما أمران انتقدهما القرآن. ويمكن أن نلحظ كذلك، مقاومة ثقافية، لأنّ الإسلام أراد أن يعطي للشعب العربي كتابه المقدّس، ونبيّه، الذي يعلِّم الناس الدِّين والأخلاق، ويكون بمقدوره أن يشفع لهم يوم القيامة، وهو ينطق في الأصل عن الوحي الإلهي، وقد تجلت مقاومتهم الثقافية في تكذيب النبيّ والإعراض عنه ومحاربته.
كان لابدّ للإسلام من قاعدة يستند إليها، لكي يقدّم رؤيته، تلك الرؤية التي تقدم الإله متوحّداً في ذاته، وتصوغ الوحي صياغة أخيرة، وبحسب ما قدّمنا، تقرأ الوجود قراءة جديدة فكان القرآن عربياً. ومن المُستبعد أن يكون القرآن عربياً بمعنى عربية مفرداته وألفاظه، في مقابل أعجمية ألفاظ التوراة والإنجيل. إنّ عربية القرآن رؤيته التي نسج لحمتها وسداها الواقع التاريخي الذي نبع الوحي منه، رؤيته التي قدّمتها ثقافة ذلك الواقع، وتكوّنت عناصرها من مفاهيمه، لذلك لم يسمِّ القرآن نفسه عربياً إلّا عندما كان يقدّم قراءته العربية، لتكون هُويّةً له.
لنتابع الوحي حسب نزوله، ونراقب "عربية القرآن":
- أوّل ذكر لعربية القرآن جاء في "سورة طه"، وهي (تس 42) في تسلسل النزول، وفيها قصّة موسى وآدم، وهي تركّز على الوعيد؛ وعيد الكافرين: (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا) (طه/ 99). (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا) (طه/ 113). أي إنّ في القرآن قصص من سبق، قصص الأُمّم السالفة وقد قدّمها بصياغة عربية.
- ثمّ تلاه ما جاء ما جاء في "سورة الشعراء" (تس 44)، وهو وصف للقرآن: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأوَّلِينَ) (الشعراء/ 192-196). فالقرآن جاء من الله بوساطة جبريل، جاء بلسان عربي، برؤية عربية، وقد سبق لمحتواه (الكلام الإلهي) أن ورد في الكُتُب السابقة.
- في "سورة يوسف" (تس 49) تكون رؤية القرآن العربي أحسن الرؤى، وهو يسرد قصّة يوسف: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا) (يوسف/ 2-3).
- في "سورة الزمر" (تس 57) يشتمل القرآن على أنواع مختلفة من الأمثال، والمثل عبارة عن قول في شيء، يشبه قولاً في شيء آخر بينهما مشابهة، ليبيّن أحدهما الآخر ويصوّره. ويشتمل القرآن على الأمثال بهيئة عربية: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الزمر/ 27-28).
- في "سورة فصلت" (تس 58) توضحت آيات الكتاب (الرسالة، الوحي) وانكشفت بوصفه قرآناً عربياً، أي إنّ طريقة تفصيل آياته وعرض مكوّناته، طريقة أو هيئة عربية: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (فصلت/ 3).
- في "سورة الشورى" (تس 60): (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) (الشورى/ 7).
- في "سورة الزخرف" (تس 61): (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف/ 3).
- في "سورة الأحقاف" (تس 64) لم يكن الرسول إلّا واحداً من الرُّسل، وقد سبقه موسى. والقرآن توثيق لما سبق إلّا أنّه جاء عربياً: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي) (الأحقاف/ 9). (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا) (الأحقاف/ 12).
- في "سورة النحل" (تس 69)، عندما اتُّهم الرسول بأنّه يأخذ ما يقوله عن إنسان أعجمي، رد التهمة بالتأكيد على عربية القرآن، وأنّه ليس من مصدر أجنبي: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (النحل/ 103).
- في "سورة الرعد" (تس 95): (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ) (الرعد/ 37). والحكم، وهو القضاء، موصوف بالعربي، أي من بيئة العرب، وعلى نهجهم.
نخلص من استعراض ورود "عربية القرآن" في القرآن، إلى أنّ الوحي أكّد هُويّته العربية في مراحله الأولى، أي في العهد المكي خاصّة، وبلغ سبع مرات، فلما جاء العهد المدني كانت عربية القرآن مسألة مسلَّمة؛ ولذلك ذكرها مرة واحدة فقط في "سورة الرعد".
لقد ابتدأ الوحي بعربية القرآن وجعلها مبدأ من مبادئه، تناسباً مع تاريخيته، وانسجاماً مع معطيات الثقافة العربية، وتلاؤماً مع القوم الذين نزل فيهم وخاطبهم. قال ابن خلدون: "وقد واقع الوحي قوماً مهيَّئين له، وأنّهم أسرع قبولاً للحقّ والهدى، لسلامة طباعهم عن عوج الملكات، وبراءتها من ذمم الأخلاق، إلّا ما كان من خلق التوحش القريب المعاناة، المتهيئ لقبول الخير، ببقائه على الفطرة الأولى".
وكان الوحي أيضاً، يمثّل للعرب فرصة للملك، بحسب ابن خلدون أيضاً، والسبب في ذلك "أنّهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأُمّم انقياداً بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة، فقلما تجتمع أهواؤهم، فإذا كان الدِّين والنبوة أو الولاية، كان الوازع لهم من أنفسهم".►
ملاحظة:
تس: اختصار لـ(تسلسل).
المصدر: كتاب كلام الله الجانب الشفاهي من الظاهرة القرآنية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق